لم يعد خافياً ما
أكدته المصادر الأمريكية والسلوك الرسمي الأمريكي من أن واشنطن تصر على
تفتيت العالم العربي لصالح إسرائيل، وأن القضية أصبحت مصلحة أمريكية محققة،كما لم يعد مستساغا أن يتستر المؤيدون للمؤامرة الأمريكية خلف رفض نظرية المؤامرة،وسوف نركز في هذه المقالة على خطوط المؤامرة الأمريكية الصريحة ضد وحدة السودان وما يجب على العالم العربي أن يفعله،فالمؤامرة
مؤكدة وخطوطها ساطعة مؤلمة ،والسعي الحثيث من جانب الغرب كله إلى تفتيت
السودان مشهود ،ثم ينبري البعض من أصحاب الهوى والمصالح والطابور الخامس
بدحض هذه المقولة، بل ينكر علينا أن نعادى الغرب ،وكأن المطلوب منا أن نقف
مرحبين والمنطقة تتفكك وتسقط الأوطان فوق رؤوسنا.
الظاهر أيضاً أن المؤامرة واسعة وساحتها هي كل المنطقة العربية ومشاهدها ووسائلها متنوعة،ولسنا بحاجة إلى استعراض خطوط المؤامرة خلال العقود الأخيرة بقدر ما أننا بحاجة إلى التذكير بأن المؤامرة تجلت عام 1967 بإسقاط
المشروع التحرري العربي الذي قادته مصر الناصرية في الخمسينيات حتى منتصف
الستينيات ،والذي كان جناحاه التحرر من الاستعمار والهيمنة والوحدة العربية.
منذ 1967 ضرب
المشروع وضربت مصر قاعدته المركزية ، ثم سعى المشروع الصهيوني الاستعماري
إلى إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة بتعطيل قدرة مصر علي الحركة ، ثم
تغيير اتجاهها ، ثم قعودها تماماً وإخضاعها لعملية تفكيك واسعة بأيدي
مصرية، وكان هذا المشروع
المعادى يرتكز على خمسة ركائز، الركيزة الأولى، هي تسفيه كل ما هو قومي،
وكل ما هو عربي، ثم كل ما هو إسلامي، وكانت 11 سبتمبر
والمسرح العراقي هما ساحة العرض ،والركيزة الثانية تغيير طبيعة المشروع
الصهيوني من كونه مشروعاً إجرامياً إلى كونه حركة تحرر وطني لليهود ،وإعلاء
شأن الصهيونية بقانون أمريكي يتصدى لكل من يحاول النيل من الصهيونية،
فأصبح التقابل حتمياً في الذهن العربي بين صعود الصهيونية التي تسللت إلى
كل مسام الجسد الرسمي العربي رغم استعصاء الجسد الشعبي الوطني، مقابل سقوط
العروبة والإسلام والوحدة العربية، فأصبحت المنطقة وأجيالها بحالة سرطانية
وضاعت منها بوصلة المصلحة العربية العليا.
الركيزة
الثالثة هي التراجع العربي في كل شيء والصعود الإسرائيلي ورفع شعار أمن
إسرائيل، والقضاء على مصادر القوة العربية، فحدث انفصام غريب في العقل
العربي بين المصلحة الفردية والقومية، والفردية للحكام والمصلحة الوطنية،
ثم الانفصال بين عناصر العلاقات العربية مع الخارج وموقف هذا الخارج من
المشروع الصهيوني.
أما الركيزة الرابعة فهي فصم عرى العلاقات بين الدول العربية والوقيعة بين شعوب المنطقة،ثم
كانت الركيزة الخامسة هي تفتيت الأوطان من الداخل وإشاعة الفتنة الطائفية
والعرقية والمذهبية حتى تتراجع تماماً فكرة العروبة الجامعة والوحدة
العربية المستحقة لأمة واحدة.
وقد
كان واضحا منذ البداية خطوط المؤامرة الغربية على السودان التي اكتست
بطابع العداء للأمة في آمالها في الحرية والاستقلال والديمقراطية والتنمية،
وفى دينها وحضارتها التي أرستها كل المذاهب والأعراق في ظل سماحة الإسلام
الحنيف، وفى وحدتها الإقليمية.
بدأت صفحة العداء والمؤامرة في الجنوب ،فتحالفت أطراف كثيرة وتشكلت الجبهة
الشعبية لتحرير السودان كله من الاستعمار العربي الإسلامي، ونشطت إسرائيل
وتقاعس العرب في هذا الفصل الأول الذي انتهى مشهده الأول في نيفاشا،أعقب
ذلك الفصل الثاني بفتح صفحة التمرد التي كانت تعد في دارفور ،وهى امتداد
لجهود الجبهة الشعبية، حيث توقفت الحرب في نيفاشا وكفلت نيفاشا للجبهة
مزايا فريدة لاستجماع مخطط التمزيق والانفصال، بينما انشغلت الحكومة مع
متمردى دارفور المدعومين من واشنطن وإسرائيل وفرنسا وبريطانيا، فلم يقف
المحيط مرة أخرى مع السودان، فلجأ حلفاء المتمردين إلى المحكمة الجنائية
الدولية بالتوازى مع تزويد المتمردين بالمال والسلاح والمأوى والتدريب وهم
يذرفون دموع التماسيح، ومعهم آلاف المواقع الصهيونية على ضحايا دارفور،
والمطالبة بمحاكمة البشير عن هذه الجرائم رغم أن البشير يدافع بجيش الدولة
ضد المؤامرة على وحدة الدولة، ويرد على هجوم المتمردين المأجورين الذين
يستخدمهم الغرب أداة لتمزيق وطنهم،وقد كان لتدخل المحكمة الجنائية ومدعيها العام توقيت محسوب وفق المؤامرة،فقد
أرادت واشنطن ابتزاز البشير بين عدم الاعتراف بشرعية انتخابه أو أن يسهل
فصل الجنوب وفصل دارفور، فلما أصر على وحدة البلاد وعلى تسوية المنازعات مع
كل الأطراف بالمفاوضات شن الغرب كله حملة على البشير مستخدماً هذه المرة
بوضوح مدعي عام المحكمة ذاتها فطالب الاتحاد الأوروبي وواشنطن تشاد بالقبض
على البشير وتسليمه ما دامت طرفاً في نظام روما الذي أنشأ المحكمة ،وكأنهما
حريصان على العدالة الجنائية الدولية المهدرة أمام جرائم إسرائيل في غزة
وأسطول الحرية، وجرائم أمريكا في العراق وأفغانستان ودعمها لجرائم إسرائيل.
والطريف
أن واشنطن التي تعادى المحكمة الدولية ولها سجل معروف تريد لهذه المحكمة
أن تحاكم البشير فقررت قمة الساحل والصحراء مساندة البشير، فأصبحت صورة
المحكمة بائسة ودورها السياسي في المؤامرة مكشوفا، ثم دعا رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي في قمة كمبالا إلى مراجعة شاملة للموقف الإفريقي من المحكمة.
ولذلك
يجب عقد قمة مشتركة عربية إسلامية إفريقية في الخرطوم للتأكيد على دعم
العملية السياسية ورفض انفصال الجنوب، فلم تعد القضية بالتأكيد هي العدالة
الجنائية أو حق تقرير مصير شريحة من المجتمع السوداني بقدر ما هي قضية
المؤامرة على وحدة السودان والطمع في ثرواته والسعي الحثيث لتفتيت السودان.
إن
إفريقيا تدرك أن الاستعمار الذي رحل سياسياً لايزال يتحكم في مفاصلها
الاقتصادية، وأن المحكمة الجنائية الدولية أداة للاستعمار الجديد، وليكف
المضللين حول هذه المحكمة وأصدقاء المحكمة عن العبث ومطالبتهم بتوسيع دائرة
الانضمام إليها كوسيلة للسيطرة عليها، ولكني أرى أن الانسحاب من نطاقها
وإدانتها هو أبلغ رد على انحراف المحكمة عن قصدها وخيانتها لآمال الملايين
في عدالة جنائية صحيحة بعيدة عن المؤامرات الاستعمارية.
وأخيراً،
إذا كان الغرب يظهر عداءه على هذا النحو فماذا نحن فاعلون؟ لابد من إجابة
ترد الاعتبار للعالم الثالث ، وتصر على احترام القانون الدولي الذي انفرد
الغرب يوما بوضعه والآن يريد أن ينفرد بتفسيره وتطويعه وتطبيقه.