عتبر ماركو بولو أشهر رحالة العالم في العصور الوسطى. فقد كان رجلاً
استثنائياً خرج في مغامراته إلى أراض بعيدة مجهولة واستكشف أرجاء مثيرة من
العالم في أسفاره ليسرد لنا قصة رائعة عن تجاربه مع شعوب وثقافات غريبة.
لكن كم منا يا ترى يعرف أن رجلاً آخر عاش في الفترة ذاتها تقريباً التي عاش
فيها ماركو بولو غير أنه سافر أكثر منه؟ إنه ابن بطوطة, الرحالة العربي
الذي فاق كل رحالة عصره وقطع حوالي 75 ألف ميل تقريباً في أسفاره. كما أنه
أيضاً الرحالة الوحيد في العصور الوسطى الذي رأى بلاد كل حاكم مسلم من حكام
عصره.
في رحلته التي أراد منها أن يحج إلى مكة, زار ابن بطوطة
خلالها شمال أفريقيا وسورية. ثم خرج يستكشف باقي الشرق الأوسط وفارس وبلاد
الرافدين وآسيا الصغرى. ووصل إلى شبه القارة الهندية وأمضى هناك قرابة عقد
في بلاط سلطان دلهي الذي أرسله سفيراً له إلى الصين.
بعد
30 عاماً من الترحال والاستكشاف, قرابة عام 1350, بدأ ابن بطوطة طريق
عودته إلى وطنه. وأخيراً عاد إلى مدينة فاس في المغرب. وهناك, في بلاط
السلطان ابن عنان, قرأ أوصاف ما رآه في أسفاره على ابن الجوزي. الذي خط
منها كتاباً. وهذا الكتاب موجود بين أيدينا اليوم ويعرف بعنوان "رحلات ابن
بطوطة".
يتحدث كتاب الرحلات عن المغامرات التي عاشها ابن بطوطة في
أسفاره. فخلالها تعرض للهجوم مرات كثيرة, وفي إحداها كاد يغرق مع السفينة
التي يستقلها, وفي أخرى أصبح على وشك أن يلاقي مصيره إعداماً على يد أحد
الزعماء الطغاة. كما تزوج عدداً من المرات وعرف أكثر من عشيقة, الأمر الذي
جعل منه أباً للعديد من الأبناء أثناء سفره.
من طنجة للعالم في 30 عاماًولد
ابن بطوطة في طنجة بالمغرب عام 1304 لعائلة عرف عنها عملها في القضاء. وفي
فتوته درس الشريعة وقرر عام 1325, وهو ابن 21 عاماً, أن يخرج حاجاً. كما
أمل من سفره أن يتعلم المزيد عن ممارسة الشريعة في أنحاء بلاد العرب.
في أول رحلة له مر ابن بطوطة في الجزائر وتونس ومصر وفلسطين وسوريا ومنها إلى مكة. وفيما يلي مقطع مما سجله عن هذه الرحلة:
"كان
خروجي من طنجة مسقط رأسي... معتمداً حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول
عليه الصلاة والسلام, منفرداً عن رفيق آنس بصحبته, وركب أكون في جملته,
لباعث على النفس شديد العزائم, وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة... فجزمت نفسي
على هجر الأحباب من الإناث والذكور, وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور,
وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصباً, ولقيت كما لقيا نصباً."
في
تلك الأيام الخوالي, كان السفر عبر هذه المسافات الشاسعة والمغامرة بدخول
أراض غريبة مجازفة. غير أن ابن بطوطة كانت لديه الجرأة, أو على الأقل
العزم, بما يكفي للشروع في رحلته وحيداً على حمار. وفي الطريق, التحق
بقافلة من التجار, ربما بدافع السلامة, وكانت القافلة تتكاثر مع الطريق
بانضمام المزيد إليها. ومع وصولهم القاهرة كان تعداد القافلة قد بلغ عدة
آلاف من الرجال ولم يتوقف بعد عن الازدياد. ولابد أن ابن بطوطة قد أحس
بإثارة بالغة لتقدم رحلته. فقد كانت أول تجاربه المباشرة في تعلم المزيد عن
أكثر ما يهواه, وهو دار الإسلام. فقد قابل علماء المسلمين واكتسب مزيداً
من المعارف الدينية والشرعية.
الجزائر وليبيا
حين
وصولهم إلى الجزائر, أمضت القافلة بعض الوقت خارج أسوار المدينة لينضم
إليها مزيد من الحجيج. وعند مدينة بجاية, تدهورت صحة ابن بطوطة. غير أنه
بقي عازماً على مواصلة المسير وعدم التخلف عن الركب بسبب صحته. ومشيراً إلى
هذا الحادث يقول: "إذا ما قضى الله أجلي, فسيكون موتي على الطريق, ميمماً
وجهي شطر مكة."
وأثناء مسيرة القافلة في أراضي ليبيا, وجد ابن
بطوطة أن من المناسب له أن يتزوج ابنة تاجر تونسي مسافر معهم في القافلة
إلى الحج. وقد تزوجها ابن بطوطة في مدينة طرابلس, غير أن الزواج لم يعمر
طويلاً بسبب خصومته مع حميه الجديد. لكن على ما يبدو لم يزعج هذا ابن بطوطة
كثيراً فسرعان ما خطب فتاة أخرى هي ابنة حاج من فاس. وفي هذه المرة كان
حفل الزفاف يوماً كاملاً من الاحتفالات.
مصر وسوريابدأت
القافلة تقترب من مصر. وقد أذهلت القاهرة ابن بطوطة, إذ كانت كما هي
اليوم, أكثر المدن العربية صخباً ونشاطاً ولهذا قرر أن يمضي فيها بضعة
شهور. إذ لا يزال على موعد الحج على أية حال ثمانية شهور. كانت القاهرة كما
وصفها ابن بطوطة "أم المدن, سيدة الأرياف العريضة والأراضي المثمرة, لا
حدود لمبانيها الكثيرة, لا نظير لجمالها وبهائها, ملتقى الرائح والغادي,
سوق الضعيف والقوي... تمتد كموج البحر بما فيها من خلق بالكاد تسعهم..."
بقي
ابن بطوطة في القاهرة قرابة شهر. وحين رحيله عنها قرر أن يسلك طريقاً غير
مباشر إلى مكة مادامت شهور عديدة تفصله عن موعد الحج. ومضى إلى دمشق, التي
كانت حينها العاصمة الثانية للدولة المملوكية في مصر. لم يكن هذا الجزء من
رحلة ابن بطوطة مليئاً بالأحداث, ربما لاستتباب الأمن فيه نسبياً في عهد
المماليك. لكن دمشق سحرت ابن بطوطة بجو التسامح والتعاضد الذي يسود فيها.
وعنها يقول: "تنوع ونفقات الأوقاف الدينية في دمشق تتجاوز كل حساب. هناك
أوقاف للعاجزين عن الحج إلى مكة, ومنها تدفع نفقات من يخرجون للحج نيابة
عنهم. وهناك أوقاف أخرى توفر أثواب الزفاف للعرائس اللائي تعجز عوائلهن عن
شرائها, وأوقاف أخرى لعتق رقاب السجناء. وهناك أوقاف لعابري السبيل تدفع من
ريعها أثمان طعامهم وكسائهم ونفقات سفرهم لبلدانهم. كما أن هناك أوقافاً
لتحسين ورصف الدروب, لأن كل الدروب في دمشق لها أرصفة على جانبيها يمشي
عليها الراجلون, أما الراكبون فيمضون في وسط الدرب."
أخيراً مضى ابن
بطوطة للحج. وبعد قضائه مناسك الحج, أدرك أن نفسه تواقة أكثر من أي وقت
مضي لمواصلة الترحال. ولم يكن لديه بلاد بعينها يريد أن يقصدها, بل كان
هدفه الوحيد هو زيارة قدر ما يستطيع من البلدان, لكنه توخى أن يعبر دروباً
مختلفة. وهكذا تنقل في الشرق الأوسط بأكمله, من إثيوبيا جنوباً إلى فارس
شمالاً. "ثم سافرنا إلى بغداد, دار السلام وعاصمة الإسلام. فيها شاهدت
جسرين كالذي في الحلة, يعبرهما الناس صباح مساء, رجالاً ونساء. الدروب إلى
بغداد كثيرة ومعمرة بإتقان, معظمها مطلي بالزفت من نبع بين الكوفة والبصرة
يفيض منه بلا انقطاع. ويتجمع على جوانب النبع كالطين فيجرف من هناك ويؤتى
به إلى بغداد. في كل معهد ببغداد عدد من الحمامات الخاصة به, وفي كل منها
جرن اغتسال عند أحد أركانها يتدفق الماء فوقه من صنبورين أحدهما للماء
الساخن والآخر للبارد. ويعطى كل مغتسل ثلاث مناشف, واحدة ليلفها حول خصره
حينما يدخل والأخرى ليلفها حول خصره حينما يخرج والثالثة ليجفف بها جسده."
ثم
توجه ابن بطوطة شمالاً ليستطلع بحر قزوين والبحر الأسود وجنوب روسيا. لكن
أسفاره اللاحقة الأكثر متعة كانت إلى الشرق في آسيا. فقد قصد الهند حيث نال
هناك إعجاب الإمبراطور المغولي لمعارفه وقصصه. وعرض الإمبراطور على ابن
بطوطة منصباً في بلاطه فقبله. وهذا ما أتاح له الفرصة ليجوب كل أنحاء
الهند. وبعد اكتسابه معرفة وفيرة ببلاد الهند لكثرة أسفاره فيها, أرسله
الإمبراطور سفيراً للهند إلى الصين. وكان مقدراً لهذه الرحلة أن تكون
الأخيرة قبل عودته ابن بطوطة لوطنه. فرغم بعد المسافة قرر أن يقصد المغرب.
وقد وصل شمال غرب إفريقيا عام 1351. وقبل عودته أخيراً إلى فاس في المغرب
عام 1353 خرج في رحلة صغيرة إلى إسبانبا ثم في سفرة جنوبية إلى الصحراء
الكبرى.
الوطن وكتاب الرحلات
في
فاس, أعجب سلطان المغرب ابن عنان (1348- 1358 تقريباً) جداً بأوصاف البلاد
التي قصها عليه ابن بطوطة وأمره بأن يلزم فاس ويضع هذه القصص في كتاب.
وفعلاً, بمساعدة كاتب طموح هو ابن الجوزي الكلبي (1321- 1356 تقريباً), ألف
ابن بطوطة كتابه الشهير "الرحلات" في أربعة أجزاء منفصلة. وربما كان ابن
الجوزي قد أضاف للكتاب قليلاً من العنصر القصصي بين الحين والآخر بهدف
التشويق وسهولة التواصل مع القراء, لكن يعتقد عموماً أنه التزم تماماً بما
سرده ابن بطوطة عليه. غير أن الغريب هو أن كتاب "الرحلات" لم يكتسب شعبية
في الغرب إلا مؤخراً نسبياً, في القرن التاسع عشر, حينما ازداد التواصل مع
أوروبا وقدم الكتاب هناك ليترجم إلى الإنجليزية والفرنسية واللغات
الأوروبية الأخرى. ويقدر الباحثون الأوروبيون كتاب الرحلات عالياً باعتباره
وثيقة تاريخية مهمة.
بعد انتهائه من كتاب الرحلات. لم
يخرج ابن بطوطة, الذي تقدم في السن, بأي رحلة مطولة لا إلى الصحاري ولا
غيرها. بل أخذ يعمل في القضاء ويواصل نشر ما اكتسبه من حكمة خلال أسفاره.
ورغم عدم توفر معلومات وافية عن السنوات الأخيرة من عمره, إلا أننا نعرف
أنه توفي عن عمر 65 عاماً. وبعد سنين طويلة من وفاته ظل ابن بطوطة صاحب
أطول أسفار في العالم.
واليوم حصل ابن بطوطة على التقدير الذي
يستحقه بجدارة في عالم الاستكشاف. فلتخليد انجازاته الفريدة في الأسفار,
أطلق علماء العصر اسم ابن بطوطة على إحدى الفوهات البركانية على سطح القمر.